الأربعاء، 5 مارس 2014

دراسة تحليلة لليل في الأدب العربي القديم والمعاصر



دراسة تحليلية لليل في الأدب العربي القديم والمعاصر


يتجلى الليل كأروع ما خلق الله وكأجمل الصور الشاعرية في الأدب العربي منذ نشأته وحتى عصرنا هذا، فالليل جعله الله سكنا وراحة للإنسان بعد ان سبح في النهار سبحا طويلا، والليل هو السكون والجمال، والهيبة،والخوف، والبرد،والدفء، ففي الأدب العربي كان وما زال محور الحركة والحياة والإلهام وصورة مشرقة رغم ظلمته ، وقد صادق الشاعر والكاتب العربي الليل وأخلص له في كل ما كتب، حيث كان حاضرا دوما في السطور والكلمات، فالليل كان تارة هو رمز الخير وتارة أخرى رمز الشر. وكان أحيانا هو الصديق والرفيق والأنيس وأحيانا أخرى هو الغادر المؤلم والقاتل. ربما كان الليل يغري الكاتب بصمته وهدوئه للإنصات والتفكر والبكاء أو الشوق والحنين والانتظار ، لهذا أخذ الليل مساحة شاسعة في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث.
فتوقف الشعراء طويلا أمام هذه الظاهرة الطبيعية التي استطاعت أن تتجلى بوضوح وبقوة في كل تعابيره وإحساسه وقصائده، فالشاعر العربي عد الليل جزءا لا يتجزأ من حياته وصديقا ملازما له بدقائقه وثوانيه وكل لحظاته، فمنهم من رأى في الليل فرصة لانهمار الدمع والبكاء على النفس كما يقول أبو فراس الحمداني:
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبر
ومنهم تخيل الليل امتدادا للألم والقلق والحيرة، كالشاعر القيرواني حين قال:
يا ليل الصب متى غده. أقيام الساعة موعده
ومنهم من رأى الليل هما ثقيلا كالشاعر بشار بن برد حين قال:
أضل النهار المستنير طريقه
وما لعمود الصبح لا يتوضح
وطال عليَّ الليل حتى كأنه
بليلين موصول فما يتزحزح
وتبقى أجمل صورة لليل في معلقة امرؤ القيس، حيث إن كل الشعراء في العالم العربي لم يستطيعوا حتى الآن أن يأتوا بقيم فنية أقوى لصورة الليل بعد الصور الفنية الرائعة التي أتى بها النابغة الذبياني و امرؤ القيس
فالأبيات التي يتحدث فيها الشاعران عن الليل ليست بالأبيات الكثيرة مقارنة بالمواضيع الأخرى التي تناولها الشاعران في قصائدهما نحو وصف الناقة ووصف الفرس والبكاء على الأطلال وغيرها من مواضيع الشعر الجاهلي, إلا أن الأثر الشعري والفني لتلك الأبيات التي قيلت في الليل بقي مسيطرا على نوعية التصوير الفني والابداعي لحالة الليل في الشعر العربي كله إن كان في او الجاهلي أو العصور التي تليه. ولا نكاد نبحث في صور الليل عند الشعراء الجاهليين أو المعاصرين إلا وتبرز لنا الأبيات التي قالها هذان الشاعران أو حتى عندما نبحث عن جماليات التصوير العامة فإنه أول ما يواجهنا تصوير هذين الشاعرين لحالة الليل وغيرها من صورها المختلفة والرائعة.ونستطيع أن نؤكد أن شعراء العربية لم يستطيعوا أن يأتوا بأي قيم فنية جديدة لصورة الليل بعد صور أمرىء القيس أو النابغة الذبياني ان كان هؤلاء الشعراء من معاصريهما أو ممن أتوا بعدهما. ومهما يكن من وضعية هذه الأبيات وأثرها في الشعر العربي فان امرأ القيس ومعه النابغة كانا وما يزالان يقفان في مقدمة شعراء العربية الجاهليين إن كان في طرقهما لمراضيه مختلفة أو من ناحية جزالة الشعر وقوته أو من حيث النواحي الغنية العديدة أو في نواحي التجديد في القصيدة العربية. وقد أكد هذا المعنى العديد من النقاد العرب المعاصرين ممن تناولوا الشعر الجاهلي بالدراسة والتحليل, ويقف على رأس هؤلاء الدكتور شوقي ضيف حيث يقول في كتابه "الشعر الجاهلي " في معرض حديثه عن امريء القيس " وأكبر الظن ان فيما قدمناه ما يدل على قيمة امريء القيس فهو القدوة. للشعراء الجاهليين من بعده في الحديث عن بكاء الديار والغزل القصصي ووصف الليل والخيل والصيد والمطر والسيول والشكوى من الدهر ولعله سبق بأشعاره في هذه الموضوعات ولكن هو الذي أعطاها النسق النهائي مظهرا في ذلك ضرويا من المهارة الفنية جعلت السابقين جميعا يجمعون على تقديمه سواء العرب في أحاديثهم عنه أو النقاد في نقدهم للشعر الجاهلي. يقول ابن سلام سبق امرؤ القيس الى أشياء ابتدعها، استحسنها العرب واتبعه فيها الشعراء منها استيقان صحبه والبكاء في الديار ورقة النسيب وقرب المأخذ وشبه النساء بالظباء والبيض وشبه الخيل بالعقبان والعصى وقيد الأوابد واجاد في التشبيه وفصل بين النسيب وبين المعنى وكان أحسن طبقته تشبيها ان الذي يهمنا في شعر امريء القيس والنابغة الذبياني هو ذلك الشعر المتعلق بوصفهما الفني والرائع لليل والمعاني والأخيلة والصور التي تولدت من ذلك التصوير والتي ظلت متوهجة وفريدة في نوعها حتى هذا العصر.

اولا: صورة الليل في شعر امرىء القيس:


لقد وردت معاني وصور الليل في العديد من قصائد امريء القيس والتي
سنتطرق الى ذكرها على أن أهم وصف لليل ورد في تلك الأبيات المشهورة التي جاءت قي  معلقته المعروفة والتي يقول في مطلعها:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحرمل

حتى يصل الى وصف الليل قائلا:

وليل  كموج البحر أرخى سدوله

علي بانواع الهموم ليبتلي

فقلت لة لما تمطى  بصلبة

وأردف أعجاز وناء بكلكل

ألا أيها الليل الا انجل

بصبح وما الاصباح منك بامثل

فيا لك من ليل كان نجومه

بكل مغار الفتل شدت بيذبل

كأن الثريا علقت في مصامها
بامراس كتان الى صم جندل

وحقيقة فإن هذه الأ بيات أو ما يسمى بوحدة الليل في معلقة امرىء القيس قد
حازت على أكثر اهتمامات النقاد والدارسين للأدب العربي والجاهلي خاصة, على أن هذه الشروح والرؤى النقدية قد أسهمت في كشف الكثير من الأبعاد الجمالية أو النفسية. في هذه الأبيات التي أمدت بروعتها حتى عصرنا الحاضر وصارت مدرسة للتعبير ورمزا رائعا في الشعر العربي.
ان امرأ القيس في البيت الأول يصف الليل بوصف اكثر من رائع انه يصور الليل مثل موج البحر الذي أرخى أستاره على الشاعر لا لكي يسعده ويمتعه وانما ليبتليه بأنواع الهموم انه يتصور الليل بسواده كأنه أمواج لا تنتهي من الأحزان والهموم وعندما نبحث عن العلاقة الدلالية بين الليل وبين أمواج البحر فإننا سوف نصل ال النتيجة التالية:

أ - الليل = الخوف.

ب - البحر = الخوف

ج - الهموم = الحزن والابتلاء

ويبدو واضحا مما ذكرناه أن الليل في معلقة امري، القيس ليس هو الليل الرومانسي أو هو الليل العاطفي أو هو الليل المعروف. لا أنه ليل طويل زمنيا ومعنويا، ليل تحتشد فيه الهموم والابتلاء واليأس منه ومن انجلائه انه ليل مهيمن على عالم الشاعر النفسي والخاص والعالم المحيط بالشاعر بحيث ان نجوم وثريات هذا الليل لا تتحرك أبدا انه ليل سوداوي يتصف بكل معاني السوداوية واليأس انه ليل بائس لا يوجد فيه أي معنى أو بصيص لأي معنى أو نور لأي أمل أو خلاص وحتى ولو جاء الصباح فانه لا يري فه أي أمل أو نهاية لمأساته أو همومه. ان صورة الليل في هذه المقطوعة هي صورة حقيقية من معاناة الشاعر النفسية وهي صورة أخرى من حياة الشاعر البائسة التي يسيطر عليها الألم والوحدة والقهر.

ويقترب الدكتور كمال أبو ديب في كتابه الرؤى المقنعة من معنى عدم وجود تفريق بين مسافات الوحدات الزمنية والوقتية في تناوله لوحدة الليل في معلقة امري، القيس حيث يتحدث عن تفسير جديد لهذه الحالة اللا وقتية ويطلق عليها وحدة اللازمن.

أما الدكتور عبدالله الغذامي فانه يقدم تفسيرا آخر لتصوير الليل في معلقة امري، القيس فيقول لو شرحنا الليل بأنه الليل المعروف فإننا بذلك نقتل الكلمة في البيت. ولذلك فان امرأ القيس يستهل بيته بواو (رب ) التي تصرح بان الليل المطلوب هو ليل متخيل

ثانيا :صورة الليل في شعر النابغة الذبياني:


وننتقل الآن الى النابغة الذبياني فلقد حقق هذا الشاعر شهرة أدبية ومكانة اجتماعية مرموقة ليسر في قومه فحسب بل في سائر انحاء الجزيرة العربية فقد غدا الرجل سيد قومه وسفيرهم المتجول الذي يذب عنهم الأذى ويدفع عنهم الأعداء،كما غدا سيد الشعراء والحكم الذي يفصل بينهم فيرفع ويضع, ويقول فيستجاب له, فقد ذكر صاحب الأغاني انه " كان يضرب للنابغة قبة من أدم بسوق عكاظ, فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وحدث ذات مرة أن أنشده الأعشى أبو بصير، ثم حسان بن ثابت, ثم أنشدته الحسناء

بنت عمرو بن الشريد:

وإن صخرا لتأتم الهدأة به           كأنه علم في وأسه نار

فقال: والله لولا أبا بصير أنشدني آنفا لقلت أنك أشعر الجن والانس, فقام حسان فقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك فقال النابغة: يا بن أخي أنت لا تحسن أن تقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي           وان خلت ان المنتأى عنك واسع

خطاطيف حجن في حبال متينة        تمد بها أيــد اليــك نــوازع

فخنس حسان لقوله " وروى أيضا ان النابغة قدم مرة سوق عكاظ فنزل عن راحلته ثم جثا على ركبتيه ثم اعتمد على عصاه ثم أنشأ يقول:

عرفت منازلا بعريتنات                  فأعلى الجزع للحي المبن

فقال حسان: هلك الشيخ ورأيته تبع قافية منكرة. ويقال انه قالها في موضعا فمازال ينشد حتى أتى على آخرها وهذه القصيدة من أروع شعر النابغة ".

هذه الحادثة وغيرها مما يذكره الرواة تدل بشكل قاطع على المكانة الشعرية السامية التي بلغها هذه الشاعر.

إن صور الليل عند النابغة مساوية لتلك التي وردت في قصائد امري، القيس لكنها ربما تكون مختلفة في الصياغة ومشابهة في المعاني والصور التي جاء بها امرؤ القيس الذي ربما يكون هو الآخر قد تفوق في صياغة صورة الليل في وحدة الليل التي ضمتها معلقته المشهورة, على أن أشهر أبيات النابغة التي وردت في تصوير الليل بصورة فريدة ومتميزة وظلت هذه الصورة عالقة في ذاكرة التاريخ وفي تضاريس الجغرافيا ومحفورة في صفحات الأدب وفي وجدان الشعر العربي على مر الأجيال تشبيها الرائع لسطوة النعمان بن المنذر كأنها الليل الذي هو مدركه وتحويله كل خواص الليل المعروفة عن وضعية الليل الوقتية والكونية الى خواص أخرى جديدة تشتمل فيما تشتمل الادراك وحتمية الوصول الى أي مكان أو زمان أو انسان. وهذه الأبيات وردت في أحدى قصائده التي يمدح فيها النعمان ويعتذر له.

ويقول في هذه الابيات:

فإنك كالليل الذي هو مدركي            وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

خطاطيف حجن في حبال متينة          تمد بها أيد اليك نوازع

وأنا أعتقد أن الشاعر كأنه يريد أن يدلل على أن سطوة الملك في الوصول اليه هي مثل سعة وانتشار الليل وقدرته في الوصول الى اية مكان في هذه الدنيا، والرأي الآخر هو ان الشاعر يصور سطوة الملك وبطشه التي هي إن وصلته فانه ستكون فيها نهايته.
وهذه الأبيات تكشف الكثير من عمق النابغة وبعد نظره في البلاغة والوصف والدراما المسطيرة علي كل تفاصيل المشهد الذي يعبر عنه بسعة الليلة وطول باعه وانتشاره الي ماراء الأبد .

ثالثا : الليل في الشعر العربي الحديث
نأتي الي الليل وتحليله في الشعر الحديث ولايكون ذلك الي مع امير الشعراء احمد شوقي
فكثيراً مايرتبط شعر شوقي الغزلي بالليل، ظلاماً ودجىً، ومنه يصعد التغريد. بهذه الوسيلة الفنيّة يجعل شوقي لحاسة السمع أهمية اكبر من حاسة البصر ليحقق جوّاً للسماع أفضل
يتمكن الشاعر بوسيلة الليل كذلك ربط الاصوات والاصداء باصوات وأصداء غيبيَّة مجهولة، فتأخذ بعداً غامضاً.
فشوقي مولع بسكونية الحركة، ورأينا كيف يسكّن حركة الطير بحصارها بالظلام. من السهولة إذن أن يجعل مغنيه او مغنيته بديلاً عن الطير. بكلمات أخرى يجعله طيراً أو أشبه شئ به.
يقول محمد صبري في كتابه " الشوقيات المجهولة ـ الجزء الثاني ـ" في مقدمته لهذه القصيدة ص302 ) :"كان شوقي يقدِّر أمّ كلثوم لأنها أديبة تفهم ما تغنّي، وهي تحفظ القرآن، ولا تشرب الخمر. وفي غزل شوقي تلميح إلى ذلك.(
ويقول عبدالمنعم شميس في كتابه " شخصيات في حياة شوقي"...:" وعَشِق أمّ كلثوم وكتب لها قصيدة التحدي التي غنتها بعد وفاته بسنوات ..سلوا كؤوسَ الطلا هل لامستْ فاها
لم تقترب أم كلثوم من أمير الشعراء، ربما لأنه كان يحتضن منافسها عبدالوهاب في ذلك الزمان البعيد، لكن شوقي المولع بالموسيقي والغناء قام بتوجيه دعوة لأم كلثوم، وقد لبت هي الدعوة سعيدة ومبتهجة وقامت بالغناء في كرمة ابن هاني أمامه، وأحس الأمير الشعري بالنشوة تغمر روحه، فقام من مجلسه ليحيي أم كلثوم بعد أن غنت، حيث قدم لها كأسا من الطلا - الخمر، وقد تصرفت أم كلثوم بدبلوماسية ولباقة، حيث رفعت الكأس لكي تمس شفتيها دون أن ترشف ولو قطرة واحدة، لأنها لا تشرب الخمر، وقد أعجب شوقي بتصرفها الدبلوماسي وبلباقتها، فضلا عن إعجابه بغنائها بطبيعة الحال.. وعندما خلا بنفسه وانفض الساهرون، كتب قصيدة رقيقة، وفي الصباح أوصلها بنفسه حيث قال فيها :
سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها 
واستخبروا الراح هل مست ثناياها
باتت على الروض تسقيني بصـافــيـه
لا لــلـسـلاف ولا لــلــــورد ريـــاهـــا
ما ضر لو جعلت كأسي مراشـــفهـــا
ولو سقتني بصاف من حـمـيـــاهــا 
حمامة الأيك من بالـشــجـو طـارحـها
ومن وراء الدجي بالشوق نـــاجـاهــا
القت إلي اللـيـل جـيـدا نــافـرا ورمــت 
إليه اذنا وحــــــــارت فـيـــه عـيـنـاهـا
وعادها الشوق للاحباب فـــانـبـعثـت
تبكي وتـهـتــف احــيـانـا بـشـكـواهــا
وغير بعيد من شوقي نجد شاعر العراق الأكبر الجواهري ، يقول في قصديته الليل والشاعر:

وهواجس في الليل رامت حملها شهب فعثن بشملها المجموع
ما أنصفت فيه الطبيعة حبّها لما دعا للشوق غير سميع

أبت الجوانح أن تقر ، فمن يطق ملكا فلست بمالك لضلوعي
حبّ الرجوع إلى الشباب ولم أجد في مرِّه ما يرتجى لرجوع

بين الأضالع صخرة لكنّها مما جنى الأحباب ذات صدوع
قلب عليه تحالفت زمر الهوى فمنيعه للذُّل غير منيع
قالوا استقلَّ عن الهموم فقلت لا فهو التبيع لظالم متبوع
فهو هنا يبكي لليل هواجسه ومخاوفه وتوجعه وتوجع الدنيا معه ويهيم به حبا لأن الطبيعة لم تنصفه , وكأنه يقول ليت الشباب يعود يوما.. لأخبره بما فعل المشيب، ولكن بأحرف اخري قدت من صخر فكان الليل فيه اقرب للنجوي من كل ماعداه .
وعند رائد الشعر الحر بد شاكر السياب نجد الليل له دلات وعمق يصاحبه إينما ل وأرتحل  وهذه  ابيات من قصيدته (في الليل) التي مطلعها :
- الغُرفَةُ موصَدَةُ البابِ
- والصَمتُ عميقْ
- وستائرُ شبّاكي مرخاةٌ..
- ربَّ طَريقْ , الي أن يقول :
لم يبقَ صديقْ
-         ليزورَكَ في الليلِ الكابي
-والغرفةُ موصدَةُ البابِ  .
- ولبستُ ثيابيَ في الوهمِ
- وسريتُ : ستلقاني أُمّي
- في تلكَ المقبرةِ الثكلى ،
- ستقولُ : " أَتَقْتحمُ الليلا
- من دونِ رفيقْ ؟
جوعانُ ؟ أتأكلُ من زادي :
- خرّوبِ المقبرةِ الصّادي ؟!

 إذن يكشف عنوان القصيدة لنا  فاعلية شبه الجملة "في الليل" وهو خبر للقصيدة التي تشكل مبتدأً، أي وضع السياب الخاص ،ولذا فالقصيدة تتحدث عن المرض ،وعن العزلة،وعن الغرفة ،وعن الستائر المسدلة،وعن الأصدقاء الغائبين،وعن الطريق الموحشة، وعن الأم، وعن كفنها ولحدها، وعن عزرائيل وما تبع ذلك، وكلها حالات تحدث في الماضي، في حين أن القصيدة مستقبلية وموشاة بسوف، وكأنها المبتدأ المتأخر لما سوف يجرى.
          و لو أعدنا قراءة القصيدة، نجد عنوانها موجود في كل بيت من أبياتهأ تقريباً، وبصيغ ودلالات مختلفة. فالغرفة الموصدة ، ليل،والصمت العميق، ليل، والستائر المسدلة ليل،والتنصت ليل..الخ من أبيات القصيدة، مما يعني أن مفردة الليل المولدة تغطي سياقات النص كلها.لكن البنية التي ولدها الليل تأخذ صيغاً شعرية مختلفة، فهي ليست ظلمة بل موت ووحشة ووهم، ومقبرة،وزاد الموتى، وكفن مهترئ،وغياب للشمس،ودروب للوهم، هذه الصيغ  وغيرها مشحونة بدلالات الليل وفلسفته، فأعطت للقصيدة مساحات من التأمل.
يكشف العنوان عن بنية أخرى فهو معرفة وليس نكرة، وهذا يدل على أن مرض السايب علني ومعلوم، وأن صيغ الليل التي أحاطت بالقصيدة ، هي من نتاج هذه العلنية. فلو كانت القصيدة تتحدث عن نكرة ومجهول، لتحولت الصيغ السردية من الذات إلى الآخر، لكن ما يجعل القصيدة حية ومقترنة بالسياب، هو أن كل مفردة منها تحيلك إلى جزئية من حياته.
تتناول القصيدة في  سردها ثلاث شخصيات هي:  الشاعر، والأم، والراوي. وهو ما يشكل بنية درامية ثلاثية مكتملة العناصر. ويدل "في  الليل" على بنية زمكانية هي الظلمة مصحوبة بغرفة موصدة وقبر. والظلمة بمعناها الأوسع هي العماء. نحن إذن في مسرح، كل عناصر المسرحة فيه مكتملة؛ ثلاثة شخوص يُستحضرون من أزمنة مختلفة، وفي أمكنة مختلفة، ليروون لنا حدثا درامياً. وثمة جمهور يوجه له الخطاب شعرأ وليس حكاية وهو ما يقربنا من الأسطورة.وثمة خطة أخراجية يعمل على تنفيذها القراء لترسيم مكان الاحداث،حيث تتباين درجات الضوء والظلمة تبعاً لأجواء وشحنات القصيدة. فتصبح رؤيتها حافزا على قرائن لصور مختلفة تترى أمام أبصارنا. وفي مسرح الغرفة الموصدة الأبواب والشبابيك، ستائر،وأثواب سود، وفزاعات،وأكفان، وماء يجري في الأعماق، ونبات الخرّوب.

وغير بعيد من السياب نازك الملائكة في قصيدتها التي جلعت منها عنوانا لديوانها "عاشقة الليل " ندرك البعد الدرامي والضبابي لليل الموحش وكأننا ننظر اليه من باب نصف مفتوح او من ثقب أسود فهو يشكل السواد أوبمعني أدق الهروب من السواد في محطات حياتنا! .

ظلامَ الليــلِ يا طــاويَ أحزانِ القلوبِ
أُنْظُرِ الآنَ فهذا شَبَحٌ بادي الشُحـــوبِ
جاء يَسْعَى ، تحتَ أستاركَ ، كالطيفِ الغريبِ
حاملاً في كفِّه العــودَ يُغنّـــي للغُيوبِ
ليس يَعْنيهِ سُكونُ الليـلِ في الوادي الكئيبِ

هو ، يا ليلُ ، فتاةٌ شهد الوادي سُـــرَاها
أقبلَ الليلُ عليهــا فأفاقتْ مُقْلتاهـــا
ومَضتْ تستقبلُ الوادي بألحــانِ أساهــا
ليتَ آفاقَكَ تــدري ما تُغنّـي شَفَتاهــا
آهِ يا ليلُ ويا ليتَــكَ تـدري ما مُنَاهــا
نجد نازك في هذه القصيدة تلتجئ إلى الليل لا لكونه زمناً بل لكونه لوناً، وكرهت الزمن بأبعاده المختلفة، وتسمياته، وصفاته لأنه سلطان قوي جبار، ويحيل الحاضر والمستقبل إلى ماض قاس. وقد حولت ماله علاقة بالزمن مثل: الحياة والصباح والشمس والنور، إلى الأسود لأسباب متعددة نجدها بين طيات القصيدة، في حين التجأت إلى اللون (الأسود)، لكونه مضاداً للأبيض، ووظفت ماله علاقة بالسواد وإن كان ظرفاً فهو في نظرها يمثل الزمن المطلق بجبروته.‏
وقد شاع اللون الأسود لدي نازك لدرجة انه غطى مساحة شعرها بسبب تشاؤمها وعشقها لليل.‏
فهي تعشق الليل لكونه لوناً فقط، بل لأن لديه سكون وهدوء يخلد فيه المرء إلى الراحة والتأمل وتجد فيه نازك جمالاً لأنها تحت ظلامه (اللون الأسود)، تنسى الظلام
فهي تفر من ظلام الوجود إلى ظلام الليل بإعتباره أرحم في نظرها .

خاتمـــــــــــــــــــــــــــــــــة
مما سبق يتضج جليا أن عتمة الليل تشكل عالما من الإبداع لاحصر له لدي الشعراء في الادب العربي لأنها تمثل عالما من الثنائيات المتقابلة التي لاحد لها (الليل والنهار..) حكم الله سبحانه وتعالي ان يطارد أحدهما الآخر مدي الدهر فلا الليل يدرك النهار ولا النهار يدرك الليل
ونحن البشر نعيش تحت سقفهما . . نهارنا منير مكشوف وليلنا مظلم ، والليل اقرب الى المبدعين ، تغنى به الشعراء وصدحت به حناجر المطربين عبر العصور، ففي الليل حب وغزل مستور تحت جنح الظلام وبعيدا عن اعين الحساد والوشاة والعذال .
وفيه  يكتب الشعراء قصادئهم التي دبجوها في ظلمته  ، ليمشطوا ذكرياتهم ، ويسرجوا لهو خيولهم المتعبات من زحمة الحياة ، ويريحون انفسهم علي اريكة الهمس الشاعري ،و يسكنو  في ضلاله كنجمة بعيدة هاربة من الضجيج .


 سكن الليل وفي ثوب السكون تختبي الاحلام

وسع البدر وللبدر عيون ترصد الايام

فتعالي يا ابنة الحقل نزور كرمة العشاق

علنا نطفي بذياك العصير حرقة الاشواق


 عبد القادر / الحسن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق